Friday, March 30, 2007

تفاصيل صغيرة..


لم استطع أن أداري لهفتي لرؤيتهما من جديد بعد يومين من الغياب.. كانت آثار اليومين السابقين واضحة علي ملامحي وحالتي ليدركها الجميع من حولي هنا.. لكنهم علي ما يبدو عللوا الأمر بأنني بعد لم انسجم مع مكاني الجديد .. ربما كانت واضحة لدرجة أثارت دهشتي أنا نفسي
كنت لازلت أشعر بفقدان التوازن بالرغم من أنني قاربت علي أن أكمل شهري الأول منذ تسلمت عملي هنا طبيبة بفترة التكليف الإجباري.. بعيداعن أسرتي ومدينتي أجرب الاغتراب للمرة الأولي ..تتملكني حالة من الحنين الجارف لعالمي، بشخوصه وأمكنته، وحتي بعيوبه التي ألفتها لدرجة الإدمان، حنين لتلك الوجوه الحبيبة الباسمة التي تركتها لكنها لم تترك خيالي لحظة..حنين لساعات طويلة من الثرثرة التي لا تعدم جدواها ولا ينفذ وقودها أبدا.. لمساحات الصمت الجميلة المشحونة بآلاف الكلمات .. لكل تلك التفاصيل الصغيرة الجميلة التي لم أفهم أنها هي –علي بساطتها- حياتي ذاتها..حنين لحضن أمي وصوتها الذي لا ارتوي منه ..حتي ولوحملته إليَ ذبذبات هاتفي المحمول عشرات المرات يوميا لتسألني عن أحوالي وعبثا أرجو لو تحملني الموجات إليها أو تحملها إليَ ..لأكتفي في النهاية بأني(كويسة)وكفي كي تطمئن..
علي تلك الطاولة في المطعم الذي يبعد أمتارا قليلة،علي الناصية المقابلة للمستشفي ..مكاني الأثير لساعتيَ الراحة بعد العيادة الصباحية..رأيتهم لأول مرة ..كان هذا بعد أيام قليلة من مجيئي ها هنا..رجل وامرأة .. زوجان كما يبدو عليهما..جاوزا الستين بقليل كما تقول بوضوح بصمات الزمان علي وجهيهما..يظهران عند أول الطريق .. ذراعهما متشابكان وكأنما يتوكأ كل منهما علي الآخر ..يتبادلان حديثا هامسا كما لو كانا عاشقين حديثا العهد بنبضات القلوب ..يهمس لها ضاحكا فتبتسم عيناها أولا قبل أن يشع وجهها كله بضي الابتسامة..وتهمس له هي فيبدو طفلا سعيدا راضيا عن الدنيا وما فيها.. ذات الوقت كل يوم أجلس ها هنا وعيني علي أول الطريق..ما أن يظهرا حتي تتعلق بهما عيناي ..أتابع خطواتهما بلهفة..يمران من أمامي ويكملان المسير حتي ينتهي الطريق عند التقاطع البعيد لتختفي خطواتهما عن ناظري بينما يحتويهما طريق آخر..اعتدت أن أنتظر ظهورهما كل يوم .. ربما رغبة مني في أن أصنع ليومي تفاصيل جديدة صغيرة أتلهي بها .. ربما سمت المحبين الذي يحملانه-علي غرابته بحكم شيبتهما- هو ما جذبني إليهما..العاشقان الكبيران..كذا أضفتهم لعالمي
مرات قليلة كانا يتوقفان عند مقعد الحديقة الصغيرة المجاورة للمستشفي..يجلسان لالتقاط الأنفاس ..يحوطها هو بابتسامته بينما عيناها تحملان ميراث طويل من حنان الأمومة تبثه أياه من دون كلمات..دقائق مضيئة أنتظرها بشوق لتؤنس وحدة ليلي الطويل..لهذا لم يكن غريبا أن اكتئب لغيابهما أولا وأن أطير سعادة بمرآهم من جديد
تعلقت عيناي بخطواتهما التي أخذت تقترب..بدت لي اليوم أثقل من المعتاد..يمران من أمامي ..يثرثر هو كعادته بينما تتابعه بابتسامتها التي بدت شاحبة قليلاهذه المرة..فجأة يميل جسد السيدة بشدة..يحاول أن يسندها فلا يفلح لتسقط بين يديه ..هببت من مقعدي منزعجة لأري ما أصابها..مفزوعا وجدته يحاول أن ينهضها..ملامحه الملتاعة تحمل رعب الدنيا كلها.. رجوته أن يتركها في وضع الرقاد..تأكدت من انتظام أنفاسها بينما أمسك بمعصمها لأتحسس نبضها لم يكن لديها ما يقلق.. بأصابعي أفرك ما بين حاجبيها فتنتبه وتفتح عيناها ببطء .. مجرد إغماءة بسيطة كما يبدو ..لكن ما أقلقني بحق كان وجهه هو.. بدا لي قريبا من الموت من شدة الفزع..يلومها بلا انقطاع لأنه سألها أن ترتاح اليوم لكنها صممت علي الخروج.. عبثا أحاول أن أقنعه أنها صارت بخير لكنه لم يهدأ قليلا إلا حينما فتحت عيناها تماما وساعدتها لتجلس أخيرا..يتناول يديها بين يديه لاهثا كأنه كان موشكا علي الاختناق..ترنو بوجهها إليه وتحاول أن تبتسم لكي يهدأ قليلا ..تراجعت خطوتين لأفسح مجالا لكل تلك المشاعر.. لكنه لم ينطق بكلمة وكأنما اكتفي بما قالته عيناه وعيناها..تمنيت لو يتوقف الزمن بي قليلا أو أن تمتد اللحظة بكل جمالها للأبد
انتبها أخيرا إلي وجودي..شكراني كثيرا قبل أن ينهضها ليواصلا المسير .. دعوتهما لكي يشاركني طاولتي قليلا واستغربت جرأتي حينما أصررت علي الدعوة بحجة أنني لن أتركها حتي تتناول شيئا سكريا لأتأكد من أنها لن تتعب مجددا.. أتقدمهما إلي طاولتي وبداخلي فرح طفولي لأني أراهما عن قرب لأول مرة في عالمي..
لم يدم صمتي طويلا إذ سرعان ما شرعت أحكي لهما عن اغترابي وعملي هنا..ثرثرت قليلا عن وحدتي وكيف أنني سمحت لنفسي بالتطفل عليهما وتتبع رحلتهما اليومية
بابتسامتها الودود حكت لي سريعا حكايتهما.. منذ أن ارتبطت مصائرهما لتجمع بينهما رحلة طويلة جميلة.. عن السعادة الدائمة التي لم تعكرها أبدا هموم الحياة الكثيرة.. حكت لي عن الابناء الثلاثة والفراغ الذي تركوه بعد أن تزوجوا واستقر كل منهم بحياته.. عن الكبيرالذي سافر للخارج سعيا وراء الرزق كما سافرت الصغيرة مع زوجها ..عن الابن الأوسط وسؤاله الدائم عنهما مع الأحفاد. وعن محاولتهما لتقبل الوضع الجديد .. عن الحب الذي لم يغب يوما عن عشهما الجميل وعن نزهتهما اليومية التي يحرصان عليها منذ أن نصحه الطبيب بالمشي وصممت هي أن تشاركه لتصير خطواتهما معا متعتهما اليومية.. حكت كثيرا واكتفي هو بالمتابعة والابتسام هذه المرة بينما أحلق أنا في سماء عالمهم الجميل..تبدو لي ملامحهما شديدة الشبه وكأنهما قد صارا توأمين من طول العشرة.. صوتها الدافئ كابتسامتها ذكرني بصوت أمي..تري هل يبدو رقيقا ملائكيا كصوت أمي حينما تشدو بأغنيات نجاة؟؟ تمنيت لو سألتها أن تغني بينما أريح رأسي علي كتفها كما كنت أفعل مع أمي
.
لنصف ساعة امتد حديثها العذب ..يعلنان رغبتهما في القيام فأتذكر موعد عودتي للعمل أنا الأخري..أطلب منهما أن يصحباني للمستشفي لكي أطلب لها بعض الفحوص البسيطة كما هي العادة فقط لكي نستبعد أية مشاكل صحية لكنها تصر علي أنها بخير الآن وليست بحاجة لأي علاج..أواصل الألحاح فتعدني بأنها ستعود إلي قريبا لأطمئن عليها كما أشاء..فأجيبها ضاحكة بأنني سأنتظر مرورهما في الغد ليشاركاني الغذاء هنا ثم أصحبها من يدها بنفسي إلي هناك.. صافحني شاكرا فشكرته أنا علي اللحظات الدافئة التي منحاني أياها..وضمتني إلي صدرها فأحسست أن حضن أمي لم يعد بعيدا كما كان



ملحوظة..كانت هذه مجرد مسودة لقصة..أو ما أردته أنا قصة قصيرة

No comments: